تَحوُّلات الأغنية الشعبية المصرية مِن "تعاليلي يا بطة" إلى "السّح الدّح امبو" و"الأساتوك" فَزَمن المهرجان مع حمو بيكا وشاكوش!

18:33
09-02-2020
أميرة عباس
تَحوُّلات الأغنية الشعبية المصرية مِن "تعاليلي يا بطة" إلى "السّح الدّح امبو" و"الأساتوك" فَزَمن المهرجان مع حمو بيكا وشاكوش!

"إدّيني في الهايف وأنا أحبّك يا فننِّس"، هذه العبارة الشهيرة يقولها جمال أبو العزم أي الممثل الراحل محمود عبد العزيز في فيلم "الكيف" (تأليف محمود أبو زيد وإخراج علي عبد الخالق) ضمن المشهد الذي ظهر فيه وهو يرفض كلمات غنائية من أحد المؤلّفين لأنها ليست تافهة بما يكفي، ولو عُدنا إلى الحقبة الزمنية التي طُرِح خلالها هذا الفيلم أي عام 1985 سنجد أنّ الأغنية الشعبية في مصر كانت تشهد على تحوّل جذري ويطال بعضها الكثير من الإنتقادات، وهذا ما يُشبه إلى حد كبير ما يحصل اليوم في ذات الإطار.

إنقسام كبير في الآراء حول أغنيات "المهرجانات"

تشهد الساحة الفنية وتحديداً الغنائية في مصر خلال الآونة الأخيرة على طرح ما يُسمّى بأغنيات "المهرجانات" أو أغنيات "بيئة"، واللافت أنّه في الفترة الراهنة يزداد الإنقسام في الآراء حول هذه الأغنيات بشكل كبير، فهناك مَن يؤيّدها ويعتبرها لوناً جماهيرياً حتى لو كان مجرّد "موضة" وستَزول لاحقاً، في مقابل رأي رافض بشكل قاطع لهذه الأغنيات بالرغم من تحقيقها إنتشاراً هائلاً خارج حدود مصر وأبرزها أغنية مهرجان "بنت الجيران " للفنانيْن حسن شاكوش وعمر كمال المعروفة بأغنية "سكّر محلّي محطوط على كريمة".

التحوّل في الأغنية الشعبية المصرية ليس وليد اليوم


ما يُثير الإستغراب ويجعلنا نناقش هذا الموضوع هو ضرورة تسليط الضوء على أنّ هذا التحوّل في الأغنية الشعبية في مصر ليس وليد اليوم مثلما يعتقد البعض، وقبل التوسّع في ذلك ننوّه بأنّ الموسيقيّين يرفضون تصنيف أغنية "المهرجانات" ضمن خانة الأغنية الشعبية لكن ما نقصده هنا بعبارة "الشعبية" هو ما تُحقِّقه من تداول وإنتشار جماهيري أي شعبي.

فيلم "الكيف" إنتقد أغنيات مُشابِهة منذ عام 1985

أما الدليل الأكبر الذي يرصد هذا التحوّل في الأغنية المصرية والذي ترفضه فئة من الأفراد عامة وصنّاع الموسيقى خاصة، فيبرز حينما نستعيد في ذاكرتنا بعض أغنيات حقبة الثمانينات ومطلع التسعينات حينما إنتشر لوناً غنائياً مرفوضاً، وهذا ما تناوله فيلم "الكيف" الآنف ذكره-فبِالطبع حمل هذا العمل السينمائي الشهير قضية تتعلّق بالمخدرات- إنّما عكس أيضاً ما كانت تشهده الساحة الموسيقية الغنائية حينذاك من لون غنائي يتّسم بصفة "الأغنية الهابطة"، وهذا ما يبدو جلياً في الحوار ضمن أحداث الفيلم على سبيل المثال في حوار يدور بين الشقيقيْن جمال أبو العزم أي الممثل الراحل محمود عبد العزيز وصلاح أبو العزم أي الممثل القدير يحيى الفخراني حينما يأتي الأوّل ليقول أنّه يطمح ليصبح مغنّي فيرد عليه صلاح "الناس ذنبها إيه"، ويجيبه جمال "الناس بتسمع كل حاجة دلوقتي"، وفي حوار آخر بين الشقيقيْن مع سائق سيارة الأجرة خلال إستماعهم لإحدى الأغنيات "الهابطة" فيقول جمال أنّ سبب الإستماع إلى هذه الأغنيات "ندوش الدوشة بدوشة أدوش من دوشتها"، حتّى أنّ الحوار في هذا الفيلم إنتقد الأسماء الغريبة لأصحاب تلك الأغنيات أي تماماً مثلما هو الحال اليوم مع أنّ فيلم "الكيف" طُرِح عام 1985!

أمثلة من زمن منيرة المهدية و"العتبة جزاز"


منذ تلك الحقبة الثمانينيّة، بدأ يظهر الرفض لهذا التحوّل الموسيقي في اللون الشعبي للأغنية المصرية بالرغم من أنّ المكتبة الموسيقية العربية عامة تشهد على أغنيات تُعتبر "مبتذلة" لناحية موضوعاتها الغنائية، وهذا دليل آخر على أنّ هذا التحوّل ليس وليد اليوم، وهنا سنُعطي أمثلة حول ذلك:

المثال الأول سيكون عبر أغنية "تعاليلي يا بطة" للراحلة منيرة المهدية التي كانت من أهم مطربات عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم وملقّبة بسلطانة الطرب إلا أنّ حينها هذه الأغنية تعرّضت للكثير من الإنتقادات بسبب بعض إيحاءاتها خاصة حينما تقول الأغنية عبارة "تعاليلي الأوضة". لكن عاد وقدّمها الفنان الراحل شكوكو على طريقة مونولوج على المسرح مع تغيير في كلماتها التي تقول "تعاليلي يا بطة وأنا مالي هيه"، واستثمرها التلفزيون المصري آنذاك وبثّها لسنوات عديدة، وما زالت هذه الأغنية تُردّد لغاية اليوم وعرفها الجيل الحديث بسبب تداول عبارة "تعاليلي يا بطة" في الأفلام المصرية المعاصرة.

المثال الثاني عن أغنية "العتبة جزاز" التي تتضارب الآراء حول معناها، فهناك من يعتبرها إحدى الأغنيات "البَحَري" كما تُسمّى في مصر وهي تصف بعض عادات وتقاليد الزواج في الإسكندرية حينما تُغنّى للعروس في الجلسات النسائية الخاصة لذا تمّ إنتقادها بشدّة بسبب كلماتها الغريبة التي تصف جسد المرأة بمعنى إباحي خاص بالمناطق الشعبية – نتحفّظ عن نشره- إنما البعض الآخر يصفها بمعنى مُغاير تماماً حيث يُقال أنّها تحمل في طياتها إنتقاد للظلم والنظام الحاكم ولهزيمة الحرب. ويُقال أنّ الشاعر مأمون الشناوي حين كتب أغنية "العتبة جزاز والسلم نايلو في نايلو"، بعد هزيمة عام 1967 المعروفة بالنكسة، كان يسخر فيها من الهزيمة السريعة للجنود، فالعتبة كان يقصد بها سيناء، رغم أنّ الأغنية لم يذكر فيها أي اسم. والمقصود بهذه الكلمات المقتبسة من الفلكلور "الإستسلام"!
أيضاً نذكر مثالاً عن أغنية "الطشط قال لي" التي لاقت رواجاً وهجوماً في الوقت عيْنه بسبب معانيها إلا أنّها تُغنّى بمثابة أغنية شعبية للفتاة في ليلة زفافها وإستحمامها قبل الزفاف!

الإنتقادات لم تُلغي إنتشارها في الثمانينات

أما وصولاً لحقبة الثمانينات، لقد برز عدد من نجوم الغناء الشعبي في مصر الذين لاقت أعمالهم إنتقادات واسعة ليس بسبب النمط الموسيقي إنما بسبب الموضوعات الغنائية، ولعل أشهرها أغنية "إيه الحكاية" التي عُرفت باسم "الأساتوك" للفنان حمدي بتشان وهي عبارة عن انتقاد لمعاكسات الرجال للبنات مصاحبة لصوت فتاة تعبّر عن غضبها من تلك المعاكسات، وتتناوله الأغنية بطريقة خفيفة وبسيطة، وكان لهذه الأغنية نصيبها من الإعتراض الكبير عليها بالرغم من إنتشارها بشكل هائل. كما ظهرت أغنية "الواد الجن ياللى وسطك وسط كمانجة" لمجموعة وتقول كلماتها "وسطك ولا وسط كمنجة وعودك مرسوم على السنجة أنا كنت بموت في المشمش دلوقتي بموت في المانجة". فضلاً عن أغنيات الفنان الشعبي عبد الباسط حمودة التي كان لها نصيباً من الإنتقادات. إلى جانب ذلك، بالرغم من إعتبار الفنان أحمد عدويّة أحد أبرز المغنّيين الشعبيّين في مصر إلا أنّ بعض أغنياته لم تخرج من دائرة الإنتقادات في فترة سابقة بسبب مواضيعها الغنائية مثل "السّح الدّح امبو"، "زحمة" و"كركشنجي" مع التشديد هنا على أنّ إنتقادها أتى بسبب كلماتها فقط وليس بسبب اللّحن الموسيقي... إلّا أنّ كل هذه الإنتقادات لَمْ ولَنْ تلغي الشهرة والإنتشار الواسع لكل تلك الأعمال التي ما زلنا نسمعها ونردّدها لغاية اليوم.

صراع بين الأغنية النُخبَوِيّة والتجارية!


في الختام لا بد من التنويه أنّ الأغنية الشعبية تتناول مواضيعاً من حوارات تُشبِه "حياة الناس" ولا يُمكن مقارنتها بالأغنيات "النُخبَوِيّة" أو الأغنيات التي تحاول أن تجمع بين النُخبَوِيّة والتجارية بحسب ما يتطلّبه السوق. وهنا نُشدِّد على أنّنا لا ندافع عن بعض الأغنيات التي تُروّج للممنوعات والمُحرّمات مثلما تنص كلمات بعض تلك الأعمال إنّما أيضاً لا نستطيع أن نشمل كل أغاني "المهرجانات" في مصاف واحدة ونصفها بأنها "تافهة" أو "مبتذلة" بل منها ما يُعالِج مواضيع محدّدة لكن بطريقة موسيقية غير مألوفة منها "عايم في بحر الغدر" أو يتغزّل بالحبيبة بأسلوب لم نعتاد عليه مثل مهرجان "بنت الجيران" على سبيل المثال لا الحصر، وأخيراً يجب الإعتراف بأنّ الفن ومراحله على مختلف العصور والأزمنة يشهد على ظواهر فنية تولد وتنتشر لفترة محدّدة ثمّ تضمحل رويداً رويداً ...