"بارانويا"... قصة محبوكة، جدليات مطروحة وإبداع في البناء النفسي للشخصيات

13:00
27-12-2021
أميرة عباس
"بارانويا"... قصة محبوكة، جدليات مطروحة وإبداع في البناء النفسي للشخصيات

"بارانويا"... المسلسل الذي أحدث ضجة "إيجابية" خلال الأيام الأخيرة بعد عرضه عبر منصة شاهِد، للكاتب والمخرج السوري أسامة عبيد الناصر (إنتاج شركة الصبّاح إخوان)، ينطلق من فكرة تتمحور حول دوافع عالم الجريمة في خطه الدرامي العريض وما يتفرّع منها في خطوط درامية أخرى حيث يروي المسلسل قصة عازف موسيقى يُدعى "وزير" يتحول إلى لص ورئيس عصابة وبعدها يصبح متهماً بجريمة قتل لإحدى وعشرين فرداً ثم يُسجَن ما يجعله يبحث عن دليل براءته بشتّى الطرق.

 

 دراما عالم الجريمة تتقاطع مع علم النفس الجنائي

 

قبل التوسّع في مناقشة العناصر الدرامية لهذا المسلسل لا بد من التوضيح بأنّ العمل المذكور قدّم بحثاً "نوعاً ما" بقالب درامي حول علم النفس الجنائي الذي يُعد بمثابة دراسة تجمع القانون وعلم النفس، فالأول يتناول الجريمة والضرر الناتج عنها، وخطورتها على المجتمع وتطبيق العقاب المناسب لها، والثاني يركّز على شخصية وعقلية المجرم ودوافعه. وتضاعفت أهمية علم النفس الجنائي في ظل ما يوفره من مساهمة مهمة لجهات التحقيق في أداء مهامها، من خلال دراسة سلوكيات المجرمين ونمط تفكيرهم، وبالتالي يساعد على منع تكرار الجريمة في المستقبل، فضلاً عن دوره في التأكد من صحة أقوال المتهمين، من خلال قياس انفعالاتهم عبر دراسة لغة الجسد التي تشمل مراقبة حركة العين ونبرة الصوت وحركات اليدين، وعلامات التوتر البادية على المجرم حين تتم مواجهته بتفاصيل الجريمة والأدلة. وهذا ما يتقاطع مع دراما عالم الجريمة وشخصيات درامية من نوع "سايكو" في حال تم تقديمها تمثيلياً وتحدث في إطار تشويقي.

من هذه الفكرة الرئيسية تنطلق قصة مسلسل "بارانويا" ونلمس ماهية علم النفس الجنائي في المشاهِد التي جمعت شخصيتيْ "وزير" و"رواد". 

 

 دراما تُغذّي موهبة الممثل وشغفه

 

في ذات الإطار، نشير إلى أنّ هذا النوع من الدراما يضع الممثل أمام إختبار لمدى كفاءته فليس من السهل تقديم شخصية درامية تعاني من اضطراب نفسي وهنا يظهر شغف الممثل الذي ينتظر هذه النوعية من الأدوار كي تمنحه مساحة واسعة لإظهار موهبته أكثر وأكثر... فالمسلسلات حول الأمراض النفسية تعتمد بشكل أساسي على كيفية البناء النفسي للشخصيات، ففي بعض الأعمال الدرامية يكون النص هو البطل بحد ذاته لكن فيما خص الأعمال التي تعتمد على فكرة تقديم شخصيات سايكو تأتي أهمية النص بموازاة أهمية كفاءة إعداد الممثلين لِشخصياتهم لأنّ مهارات التمثيل تتجلّى في تجسيد الشخصية الدرامية التي تعاني من اضطراب نفسي لِما تعطي الممثل مساحة شاسعة لموهبته وأدواته، وفي مقابل ذلك يكون الممثل في أدوار السايكو أمام تحدي كبير في فرض أدائه لإقناع المُشاهِد بعيداً عن الأداء المسرحي والمبالغة في تقديم هذه الشخصية. 

 

قصي خولي في واحد من أهم أدواره

"وزير" هو البطل الرئيسي للمسلسل حيث يُجسّد شخصيته الممثل السوري قصي خولي في واحد من أهم أدواره خلال مسيرته الفنية إذ اندمج قصي بدوره حتى تماهى مع خيوط شخصية وزير لِتجد نفسكَ أنتَ كمُشاهِد تأبى إلّا أن تُصدّقه وكأنّ وزير أصبح شخصية واقعية ملموسة وليست مجرد شخصية على الورق. بذلك أثبت قصي مجدداً أنه أستاذ في التمثيل، أداءه يُدرّس بتقلّبات وتبدلات الشخصية دون أي مبالغة مفرطة في كيفية انتقالها وتحوّلها وتأرجحها بين الجانب الخيّر والشرّير من نظرات عينيه. وفي العنصر الفيزيولوجي لشخصية وزير، نستمع إلى الطبيب النفسي رواد في الحلقة الأولى من العمل حين يقول أنّ  ملامح الوجه قد تحمل دلالة على الإجرام والشر منها شكل عظمة الوجنتيْن، لذلك خضع خولي لعملية تجميل عدّل من خلالها شكل الخد ومنطقة الحنك وهي عملية مؤقتة بواسطة حقن بوتوكس تدوم لستة شهور فقط، وهذا يصب في خدمة العنصر الفيزيولوجي لشخصية وزير. أما بالنسبة للعنصر السيكولوجي لهذه الشخصية، فنلحظ أنّ وزير في طريقة تعامله مع الآخرين يعتمد على طريقة بيداغوجية لأنه يمارس سلطته حتى على الطبيب النفسي داخل السجن وهذا ما يحمل رمزية تسمية هذه الشخصية الدرامية "وزير".

 

 شخصيات بارعة في أدائها التمثيلي

 

"وزير" يبحث طيلة أحداث المسلسل عن دليل براءته بمساعدة "رواد" الذي يُقدّم شخصيته الممثل سعيد سرحان. وهو طبيب ومعالج نفسي يعمل في التحقيق الجنائي، ولقد أدّى سعيد دوره ببراعة حيث كرّس كل تفاصيل لغة جسده ليعكس مدى الاضطراب النفسي بسبب التوتّر والقلق الذي يعيشه منذ طفولته بعدما قُتِلت والدته على يد والده فقرر لاحقاً التخصص في مجال الطب النفسي وتحديداً في البحث داخل عالم الجريمة.

 

أما الممثل جنيد زين الدين فقدّم شخصية "نسيم" المعروف بإسم "ابو شرارة"، وهو الصديق المقرّب من وزير حيث سانده في كل الظروف التي مرّ بها، ومن خلال هذا الدور، يثبت جنيد نفسه مجدداً كممثل لجميع الأدوار عملاً تلو الآخر رغم أنه عُرف كممثل كوميديان" في بداياته".

 

بالنسبة للممثلة ريتا حايك التي لطالما عرفناها كفنانة مجتهدة تبحث عن التجارب الجديدة لتقديم فنّها، لقد جسّدت في "بارانويا" شخصية "ميلا" حتى أنها خضعت لرسم وشم خصيصاً لهذا الدور الذي اعتمدت فيه على أسلوب السهل الممتنع،  فأجادت حايك تجسيد شخصية الفتاة التي لا تنسى عشرة العمر مهما خُذلت وهذا ما فعلته مع وزير الذي تعشقه ونسيم الذي يعشقها رغم غضبها الشديد منه وذلك كي تساعدهما على التخلص من مأزقهما بعد سرقة المصرف.

 

 

قصة محبوكة وعنصر التشويق لم ينطفئ

 

فيما خص قصة المسلسل وكيفية طرحها، تتصاعد الأحداث حتى تصل إلى ذروتها دون أن يشعر المُتلقّي بأي ملل جراء مماطلة درامية إنما حافظ العمل على حبكة قصته في إطار من التشويق والإثارة على مدار حلقاته الأربعة عشر.

 

الحوار فتح آفاق الإجابات على الجدليّات

 

واللافت أنّ هذا العمل طرح مناقشة لعدة جدليات إجتماعية منها:اختلاف نظريات علم النفس حول ما إذا كانت الأمراض النفسية والميول الشريرة وبالتالي الإقدام على فعل الجريمة تُورّث عن طريق الجينات، التساؤلات حول الموت الرحيم (مشهد الممثلة ليلى قمري) ، مدى أهمية الموسيقى في حياة الإنسان، الغموض والفضول لمعرفة معلومات أكثر عن الفضاء الخارجي (حوار رواد ونسيم حول ما كشفت عنه ناسا حينما قامت بنشر مقاطع صوتية لـ "موسيقى فضائية" أذهلت رواد الفضاء قبل أربعين عاماً) . كما يحمل المسلسل في إحدى زوايا نصه وحواره نقداً بنّاءاً للمدرسة التقليدية كأسلوب في العلاج النفسي.

 

ما يجب أن نتوقف عنده أيضاً هو تقديم كاريكتار من ذوي القدرات الخاصة بعدما كانوا يوضعون في قالب متنمّر تحت ذريعة الكوميديا الهزلية في السنوات المنصرمة.

 

أيضاً من الجدير بالذكر أنّ هذا العمل ارتكز على مدى أهمية الصحة النفسية وضرورة علاجها لأنّ النفس البشرية حينما تمرض بالشر تتزايد الجرائم ما سيؤدي إلى الهلاك الإجتماعي.

 

 تمكُّن واضح في باقي عناصره الدرامية 

 

لن ننسى أيضاً البراعة الفنية في عناصره الأخرى مثل طريقة التصوير والتبديل بين لقطات "لارج وكلوز" مع الإنتقال من مشهد لآخر حيث أتت بأسلوب جديد يتماشى مع التقلبات النفسية للشخصية الدرامية.

 

فضلاً عن الماكياج والأزياء كأداة مُساعِدة في تقمّس الجانب الفيزيولوجي للشخصيات، والموسيقى التصويرية التي فازت بجذب المُشاهِد ضمن المؤثرات الصوتية للعمل بموازاة المؤثرات البصرية، كما أتى الجنريك وتتره الغنائي بتوقيع فنان الراب "بو كلثوم" بأسلوب بعيد عن المدرسة الكلاسيكية بفكرة "خارج الصندوق".

 

مسلسل يصلح لكل زمان ومكان 

 

لكل الأسباب الآنف ذكرها، نُقِر بأنّ مسلسل "بارانويا" لم يُكتب ليكتفي بجذب المُشاهدين كأي عمل درامي تجاري بل ليصمد أمام الزمن. بمعنى آخر إنه مسلسل يصلح لكل زمان ومكان وهنا تكمن أهميته لأنه لا يهدف في أن يكون عمل جماهيري بغاية تجارية إنما اعتمد على عناصر درامية تحرص لأن يستمر في نجاحه مع كل عرض جديد له وهذا ما سنشهده لاحقاً.